مقدمة :
خَلْقُ الإنسان خلقٌ هادف، فهو خليفة الله فى الأرض، يحمل رسالة وأمانة عليه أن يؤديها على أكمل ما يكون الأداء، مما يستدعى إعداده ليعى أبعاد هذه الرسالة ليعمر الأرض ويعيش سعيداً فيها محققاً طموحاته، فكانت التربية هى الأداة لبناء وإعداد الإنسان الواعى بمعنى وجوده ومعنى حياته ليحقق أهدافه وآمال مجتمعه الذى يعيش فيه0
والتربية ليست عملية محايدة تتشابه فى المجتمعات والعصور المختلفة ولكنها تحمل خصائص السياقات الحضارية لهذه المجتمعات، وهى لصيقة بجملة المعتقدات الأساسية التى يؤمن بها غالبية مواطنوا المجتمع، مما يحتم عليها أن ترنو بأبصارها نحو ما يطمح إليه هذا المجتمع وأن تحمل همومه وتعانى مما يعانى منه( )، وأن ترسم له خطاه المستقبلية0
وبذلك ينبغى بناء الإنسان المصرى والعربى المعاصر فى ضوء فكر تربوى خاص بنا، لنبنى مواطن يحمل هموم وطنه وأمته العربية والإسلامية، مما يجعلنا فى حاجة إلى نموذج يرسم صورة هذا المواطن الذى نريده والذى يختلف حسب الزمان والمكان، وبناء هذا النموذج يكون من خلال مفكرين لهم رؤية شمولية كلية( )، مفكرين جعلوا هموم الأمة فى كليتها مركز تفكيرهم ومحور نشاطهم0
وهذا النموذج يعنى البحث عن فلسفة للتربية تهدى العمل التربوى وتوجه مسيرته نحو بناء الإنسان الذى نود أن نكونه من خلال العمل التربوى المنسق المتكامل الذى تتفق أغراضه مع ما يحتاج إليه المجتمع والفرد، وتكون بمثابة المرجع لكل تطوير وتجديد تربوى يهدف لبناء المجتمع الجديد المنشود ، تكون فلسفة تربوية عربية منبثقة من طبيعة المجتمع العربى وحاجاته المستقبلية لبناء إنسان عربى لصيق بتراثه وحضارته متفاعل مع عصره مطل على مستقبل أكثر إشراقاً( ).
فلسفة تربوية تنطلق من الواقع التربوى والاجتماعى العام، تمثل فن الممكن لا فن المستحيل، حيث قد يسهل رسم غايات ومقاصد تربوية جذرية حاسمة لها قيمتها الكبرى فى ذاتها بينما يصعب وضعها موضع التطبيق حيث تلفظها بنية الواقع، وهذا لا يعنى أيضاً أن فلسفة التربية ينبغى أن تتكيف مع الواقع القائم ولكن عليها أن تكشف عن دلالات ما يقدمه هذا الواقع من تغيرات ممكنة وواجبة، وعن غايات يخرجها فيلسوف التربية من حيز الواقع الممكن إلى الواقع الفعلى( )، فلسفة تراعى طبيعة العصر الذى نعيش فيه، وفكر لديه قدرة على التفاعل والمواجهة.
وفكر الأمة هو مجموع نتاج العقول المفكرة فيها، فعلى قدر ما تأخذ هذه العقول بالأسباب والعلل دون التوقف عند ما هو ظاهر وقريب وعلى قدر ما تقوم به من تحليل وربط واستنتاج واستنباط وإدراك للعلاقات، يكون فكر الأمة من حيث العمق والإحاطة والثراء والتنوع والحيوية والقدرة على التغيير والتطوير والمراجعة المستمرة( ).
وبناء على هذا تتأكد أهمية دراسة الإنتاج الفكرى والمشاريع الفكرية لكبار مفكرينا الذين يحملون هموم الأمة للوقوف على آرائهم التى يمكن أن تسهم فى بناء فلسفة تربوية نابعة من تراثنا ومن هويتنا الثقافية لبناء إنسان قادر على فهم الواقع وتغيبره من أجل تقدم المجتمع فى عصر المتغيرات السريعة والمتلاحقة، فدور المفكر هو إيجاد فلسفة نابعة من واقع المجتمع قائمة على فكر مستنير يستوعب تغيرات العصر( )، والمفكر يقدم رؤيته وتصوره فى شكل كلمات يطلق عليها حديث أو خطاب "Discourse"0
ويصاغ الخطاب فى شكل نصوص شفهية أو تحريرية تتناول العالم الاجتماعى للإنسان، وهو عبارة عن اجتهاد لتكوين المعانى والرموز حول هذا العالم، فهو إطار محدد للأفكار وكيفية التعامل مع البيئة المحيطة، وبدونه تصبح الممارسة العملية عشوائية غير محددة التوجه( )، أى أنه موجه للممارسة ويسهم فى تنمية وثقل المعرفة، ويسير الخطاب وفق أيديولوجية تحدد وتشكل وترسم ما يقدمه من تصورات( ).
هذا وتتعدد التوجهات الفكرية والأيديولوجية للخطابات التربوية المطروحة على الساحة الثقافية والتربوية فى مصر، والتى أحدها الخطابات النقدية0 ومن ضمن الخطابات النقدية، الخطاب التربوى الإسلامى ذو التوجه النقدى،والذى يستمد رؤيته حول العالم وكيفية التعامل مع البيئة المحيطة وآراءه حول تغيير الواقع، انطلاقاً من زاوية إسلامية اجتماعية هى الإطار المرجعى الذى يتحقق من خلاله نقد هذا الواقع وتوجيه الأنظار إلى مثالب الحياة ومشكلاتها لاستنهاض الأمة والعمل على إنقاذها من كبوتها( ).
هذا الخطاب الذى ينطلق من مسلمة أن الإسلام ليس شعائر فقط ولكنه منهج حياة، "فالإسلام ليس مجرد شعائر تؤدى ولا هو مجرد كلمات تلفظها الألسن ولكنه نمط من القيم المشخصة فى سلوك بشرى يسعى على الأرض معلناً التقوى وما يرتبط بها من صدق وعدل وإحسان وجدال بالتى هى أحسن وأمانة وحب وهداية"( ).
هذا الخطاب الذى يرى أن التفاعل الحضارى مطلوب وخاصة أن شعلة الحضارة تمسك بها اليد الغربية فى حين تعيش مجتمعاتنا فى تخلف وتأخر، ولكن مع الأخذ فى الاعتبار أن مجموعة النظريات التى يطرحها العقل الغربى هى فى الأصل تعالج قضايا ومتغيرات وحاجات عرفها المجتمع الغربى، فهى لا تمثل ما يواجهه المجتمع العربى والإسلامى ولا تمثل وجهة النظر الإسلامية( ).
ويعد الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على خير ممثل للتوجه النقدى الاجتماعى الإسلامى، حيث يظهر من "الخطاب الفكرى عند سعيد إسماعيل قناعته وإيمانه القوى بجدوى منهجه العقلانى النقدى التحليلى الفلسفى وعظم رسالته بغية تحقيق فكر تربوى عربى إسلامى مستنير لوطنه وللعالم العربى والإسلامى مؤمناً أنه لا طريق لبناء هذا الفكر الأصيل والمعاصر إلا من خلال هذه الرؤية المنهجية العقلية النقدية التحليلية، مؤكداً أننا لن نستطيع التقدم خطوة واحدة فى سبيل إرساء دعائم فلسفتنا التربوية العربية إذا انحرفنا عن نهج العقل، ذلك لأن هذا النهج كفيل بالإبانة عن مواطن القوة والضعف"( ).
واتجاه التربية الإسلامية فى كليات التربية فى مصر ما كان له أن يزدهر لولا وجود علماء يتبنون هذا الاتجاه ويتأثرون بنسقه الفكرى ويحاولون نشره وذيوعه، وتبنى هذا الاتجاه فى كتاباتهم ودراساتهم العديدة وإشرافهم على الرسائل العلمية فى هذا الاتجاه وتشجيعهم ومساعدتهم للباحثين فيه، ويأتى سعيد إسماعيل على فى مقدمة هؤلاء العلماء( ).
وسعيد إسماعيل علي هو أحد رواد المدرسة العلمية التربوية الإسلامية فى مصر، تلك المدرسة العلمية التربوية الموجودة فى كليات التربية بمصر، فهو من الرواد الذين رفعوا لواء تلك المدرسة وأثروها بالإنتاج العلمى سواء من خلال مؤلفاته وغزارة الإنتاج العلمى فى هذا الميدان التربوى الإسلامى أو من خلال تلامذته وطلابه الذين تتلمذوا على يديه وساروا على دربه، "وهذه المدرسة تتغيا العودة إلى المصادر الأساسية للإسلام"( ).
وهذا المفكر هو أحد العلماء المعاصرين الذين بذلوا جهداً فى مجال التأصيل الإسلامى للتربية سواء كان فى مجال التأصيل القرآنى للتربية أو التأصيل السنى أو التاصيل بأقوال الفقهاء فى التربية أو التأصيل العقائدى، وذلك من خلال البحث فى سنن القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف والتى تحكم توجيه الإنسان والمجتمع لاستخلاص المعايير الإلهية والسنن السلوكية والاجتماعية التى توجه البشر( ).
ولهذا المفكر "نظرة إسلامية كلية للكون والإنسان والمعرفة والأخلاق والمجتمع يمكن أن نتتبع نموها من خلال كتاباته العديدة، وقد تشكلت وتبلورت تلك النظرة ثمرة قراءة مستمرة فى الفكر الإنسانى من ناحية وفى المصادر الإسلامية العديدة من ناحية أخرى"( ). وتتناول الدراسة الحالية هذه الأبعاد باعتبارها تشكل أسس فكرية لخطابه التربوى0
وجمع خطاب سعيد إسماعيل بين التوجه الإسلامى والتوجه الاجتماعى النقدى، فالمتسقرئ لخطابه يلاحظ أن المحدد المركزى فى جميع طروحاته هو دائماً التشكيل المجتمعى بما هو فاعل فى التربية ونظامها التعليمى، ولقد بدأ فى التعبير عن هذا التوجه منذ الإعداد لبحث الدكتوراه عن الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لحركة الفكر التربوى فى مصر( ). إنه فى كل كتاباته لا يعزل التربية عن الواقع المجتمعى المحيط، فاجتماعية التربية لديه واضحة، حيث أن المصلح التربوى لا يستطيع أن يعزل نفسه عن الإصلاح السياسى والاقتصادى والاجتماعى، ومن هنا تأتى كتاباته التربوية متعددة الاتجاهات والمجالات( ).
وتتميز كتابات سعيد إسماعيل بالتأسيس الفلسفى المتعمق والرؤية التحليلية النقدية الثاقبة وله كتاباته العديدة التى تناولت العديد من قضايا الواقع التربوى والاجتماعى، وقدم للمكتبة التربوية المؤلفات الكثيرة فى مجال أصول التربية( ).
وهنا يجب تسجيل ملمح هام فى شخصية هذا المفكر وهو اختياره الاستقلال عن السلطة مما أتاح له تقديم تصورات ونقد للواقع المجتمعى، وأن يقترب من طموحات وأحلام الرجل العادى، فلم يقدم خطاب استعلائى نخبوى بعيداً عن واقع ومتطلبات طبقات الشعب الفقيرة0 فهذه هى الصورة الحق للعالم، "العالم الذى يجب أن يكون مقصده نشر العلم وتدعيم الموقف الصحيح والوقوف ضد الاتجاه الخاطئ، وأن ينشر علمه بوسائل النشر المتعددة سواء بشكل شفهى أو كتابى"( ).
وتأكيداً لما سبق نجده يقول :" أردت أن أكون داعية ومفكر تربوى، فالتاريخ لم يحفظ أن طه حسين كان وزيراً ولكن حفظ التاريخ أنه كان مفكراً وأديباً"( ). "حقيقة أنه من هذا النوع من الرجال الذين لا يستمدون قيمتهم من مناصبهم أو درجاتهم العلمية وإنما يستمدون تلك القيمة من إنجازاتهم العلمية المشهود بها، ومشاركتهم فى حل قضايا وهموم الوطن والأمة"( ). وهذا مصداقاً لقوله تعالى "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض"( ).
قضية الدراسة :
انطلقت الدراسة الحالية من الواقع التربوى العربى عامة والمصرى خاصة والذى يفتقد إلى وجود فلسفة للتربية محددة المعالم مستمدة من الهوية العربية الإسلامية نتيجة لحالة التبعية والتغريب والتيه الحضارى الذى نعيش فيه، هذا فى الوقت الذى يوجد مفكرون تربويون فى مصر والعالم العربى قادرون على صياغة هذه الفلسفة، ومن ثم ما أحوجنا إلى البحث والتحليل المتعمق لأفكار أحدهم للوقوف على آرائه وتصوراته فى بناء الإنسان المصرى والعربى المعاصر، وهذا من أجل تقديم ولو لبنة من لبنات بناء هذه الفلسفة الغائبة0
وبناء على ما سبق تمحورت قضية الدراسة الحالية حول تحليل الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على، بصفته أحد رواد التربية فى مصر والعالم العربى المعاصر، وذلك للوقوف على ما يقدمه من تصورات ورؤى يمكن أن تسهم فى حل بعض المشكلات التربوية والتعليمية وفى بناء فلسفة تربوية عربية إسلامية0
ومن ثم يمكن بلورة قضية الدراسة فى التساؤل الرئيس التالى :
- ما مضمون الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على؟
ويتفرع من هذا التساؤل مجموعة التساؤلات التالية :
1- ما السياقات المجتمعية التى أسهمت فى تشكيل الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على؟
2- ما معالم النمو الفكرى والاجتماعى عند سعيد إسماعيل على؟
3- ما الأسس والمنطلقات الفكرية للخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على؟
4- ما فلسفة الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل علي في بناء الإنسان المعاصر ؟
5- ما أهم قضايا الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على؟
6- ما الرؤية التقييمية للخطاب التربوي عند سعيد إسماعيل علي؟
7- كيف يمكن الإفادة من خطابه التربوى فى معالجة بعض المشكلات والقضايا الفكرية والتربوية الراهنة؟
أهداف الدراسة :
استهدفت الدراسة الحالية ما يلي:
1- تحليل الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على، واتخاذ شخصية هذا المفكر وحدة أساسية للدراسة للوقوف على اهتماماته واتجاهاته وخبراته، مع العلم بأن خطاب المفكرين هو نتيجة إلمام بالواقع المحيط تأثراً به فى توجهم الفكرى، فالظروف المجتمعية توضع أمام المفكرين خلال صياغة خطابهم الفكرى0
2- تحليل الخطاب "فى إطار المجتمع الذى أنتجه وعبر شخصية فاعله، وهو ما يعنى أن تفاعل الخطاب والمجتمع والشخصية يمثل وحدات أساسية فى هذه الدراسة، بحيث يجرى الاحتكام فيها إلىظواهر معاينة ووقائع محسوسة تدخل فى نظام الوعى بهذا الخطاب، فمن ناحية سوف يتم تناول سياقات المجتمع الأساسية ذات الصلة بالخطاب والممثلة فى الشروط المادية التى ساهمت فيه... ومن ناحية ثانية سوف نحاول اكتشاف بنية الخطاب الداخلية وما تحويه من مقولات ومفاهيم بهدف استنتاج دلالاته وتوجهاته ومراميه وكيفيات إدراكه للواقع والتراث والتاريخ( ).
وعلى هذا تحددت أهداف الدراسة الحالية إجمالاً فى النقاط التالية :
1-التعرف على أهم السياقات المجتمعية التى كان لها الأثر الأكبر فى بلورة وتشكيل الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على0
2-الكشف عن ملامح النمو الفكرى والاجتماعى عند سعيد إسماعيل على0
3-الوقوف على الأسس والمنطلقات الفكرية لخطابه التربوي0
4-تحليل فلسفة خطابه التربوي ودوره في بناء الإنسان المعاصر.
5-تحليل أهم القضايا التى تناولها ذلك الخطاب.
6-تقديم رؤية تقييمية للخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على0
7-توضيح مدى إمكانية الإفادة من خطابه التربوى فى معالجة بعض القضايا المجتمعية الراهنة.
أهمية الدراسة :
استمدت الدراسة أهميتها من :
1- أهمية موضوعها والذى تمحور حول دراسة الخطاب التربوى عند أحد مفكرى التربية الرواد فى العالم العربى المعاصر0 وتحليل الخطابات والتوجهات الفكرية يستهدف الوقوف على واقع الأزمة وشروط الإصلاح، وذلك بالتفكيك النقدى للخطابات الرائجة بغرض إرجاعها إلى ما يؤسسها من خلفيات معرفية واجتماعية متداخلة وأطر مرجعية وتوجهات علنية وضمنية فى محيط اجتماعي ثقافي خاص وممدود فى الزمان والمكان( ). وإننا فى حاجة مستمرة إلى المراجعة والتحليل والنقد المستمر للفكر التربوى السائد فى المجتمع من وقت لآخر لتبين ماهيته ومدى استمراريته ومدى تأثره بقضايا المجتمع حتى لا يكون بمعزل عنه، فبقدر وضوح الفكر تتضح الممارسة( ).
2- ولما كان المفكرون لهم دوراً كبيراً فى بناء المشروع القومى للمجتمع وذلك بوضع استرايتجيات مواجهة أزماته وكيفية بناء الإنسان الذى يهدف إليه( ). فتأتى هذه الدراسة لتتناول خطاب أحد رواد الجماعة التربوية المعاصرة، وخطاب الجماعة التربوية هو خطاب غير رسمى يستهدف تقديم البدائل والرؤى المختلفة حول قضايا ومشكلات التربية من أجل تحسين الواقع وتطويره على المدى القريب، وعلى المدى البعيد العمل على إنتاج فلسفة تربوية عربية نابعة من واقع التربية المصرى والعربى بدلاً من الاكتفاء بشرح الفلسفات الأخرى( ). إن مثل هذه الخطابات هى الأقرب إلى ظروف مجتمعاتنا، فالأمر الذى لا يقبل الاستيراد هو الفكر فلسفياً أو تربوياً حيث أنه لو قبلنا على أنفسنا استيراد الفكر فهذا يعنى أننا وقعنا بأيدينا صكاً للتنازل عن شخصيتنا ووجودنا، فلا نجاح لهذه الأمة إلا ببحثها عن فكر أصيل يمثل جذورها ويعبر عن شخصيتها ويوجه إمكاناتها وطاقاتها ويرسم مستقبلها ومسارها( ).
3- أهمية ما يقدمه خطاب سعيد إسماعيل من نقد للواقع ومحاولة توضيح للحقائق حول بعض الممارسات والسياسات التربوية، فهو يقدم خطاب حر يدافع به عن المصلحة العامة ولا يستخدم لتبرير تصرفات وممارسات معينة تهدف فى ظاهرها إصلاح التعليم وفى حقيقتها هى تخربه، فمثل هذا الخطاب ما أكثر احتياجنا إليه0 وهذا لأن خلاص العرب من ربقة النظام العالمى الجديد الذى يفرض بعض الرؤى قسراً وقهراً علينا يكون فى الأساس من خلال موقف المثقفين، حيث أن المثقف هو المؤهل لفضح هذه الدعاوى المفروضة وكشف حقيقتها وأساليبها فى خداع الناس وتلويث العقول، حيث يبحث المثقف فى أعماق الأشياء دون الاكتفاء بما يبدو على السطح حول عمليات الترويج لبعض الأفكار والنظريات وأنماط الحياة، وذلك من أجل التمييز بين الحقيقى والزائف وبين الحق والباطل( ) وهذا ما يظهر خلال الدراسة الحالية من موقف خطاب سعيد إسماعيل مما يقدم من مشروعات لإصلاح التعليم مثل مشروع تطوير كليات التربية0
4- قد يتبنى بعض واضعى السياسات التعليمية أفكار مثالية تجديدية ولكن دون الإلمام بالأفكار ووجهات النظر المتعددة مما يتطلب إطلاع وإلمام هؤلاء المختصين من واضعى السياسات التعليمية وكذلك المعلمين بآراء وتصورات وأفكار المتخصصين من علماء التربية حول تحديد المبادئ والمهام والأهداف والبرامج والنماذج المرغوبة( ). فها هو أسلوب التقويم الشامل الذى استحدث أخيراً فى المدارس المصرية كأسلوب تجديدى فى الامتحانات وسبل التقويم، ولكن يأخذ عليه سعيد إسماعيل بعض المآخذ، وينادى بضرورة توافر بعض الشروط والمبادئ اللازمة لنجاح مثل هذا الأسلوب الذى يحمل فكر مثالى تجديدى، وهذا ما يتضح خلال الدراسة الحالية0
منهج الدراسة وإجراءاتها :
تقتضى طبيعة الدراسة استخدام :
1-منهج تحليل الخطاب Discourse Analysis :
تذهب النظرية النقدية فى علم الاجتماع إلى أن فكرة تحليل الخطاب تتمحور حول أن الأفكار واللغة هى دالة اجتماعية فى الأحداث والتفاعلات والسياقات المجتمعية التى تؤثر فى إنتاج وتعضيد الخطاب، وكذلك حول أن تصوراتنا وأفكارنا تنشأ من العلاقات والظروف الخارجية المحيطة بها والتى تتخلل الوعى والوجدان وتشكل معتقداتنا ومعارفنا وفهمنا للآخر، وأيضاً حول أن قراءة الناس للخطاب تمثل كذلك عملية إعادة إنتاج له( ). أى أن عملية إنتاج الخطاب هى دالة فى شروط مجتمعية شكلت مضمون هذا الخطاب وتسهم فى إمكانية تفسيره فى لحظته التاريخية( ).
وعليه فإن تحليل الخطاب، يعنى التعامل مع الخطاب كمنتج اجتماعى ضمن حركة المعرفة والقوة والأيديولوجية المحيطة بعملية إنتاجه، والوقوف على المؤثرات الإيجابية والسلبية فى إنتاجه وكيف أن بعض الأفكار والمفاهيم والمعتقدات تستدخل كحقائق وتفضل غيرها من المعارف، أى عدم الوقوف فقط عند ما يقال ولكن الوصول إلى كيف أنتج هذا الحديث والسياقات المجتمعية المحيطة به( ).
وبذلك فإن تحليل الخطاب هو منهج بحث يقوم على فحص النصوص سواء الشفهية أو التحريرية والوقوف على أسلوبها فى التعامل مع القضايا وطريقة فهمها ورؤيتها لها، ويقوم بتفكيك المضمون للوصول إلى مكوناته وعناصره، وتتم قراءة وتحليل النصوص فى ضوء مغزاها ومحيطها التاريخى والثقافى والسياسى( ).
ولتحليل الخطاب أساليبه المتعددة، والتى يمكن الاستفادة منها فى الدراسة الحالية، فهناك القراءة الاستنساخية والتى تقف بالباحث عند ظاهر الكلام ووجهة النظر الصريحة التى يحملها الخطاب، وهناك القراءة الاستنطاقية التى تحاول إعادة بناء الخطاب فى شكل آخر، وهناك القراءة التشخيصية للكشف عن نواحى القوة والضعف فى الخطاب( ).
وأيضاً يعتمد تحليل الخطاب فى دراسته للمفاهيم على بعض الأساليب مثل تحليل حقول دلالة المفاهيم، والذى يعطى صورة عنها وعن خصائصها وشروطها ومتطلبات وأساليب تحقيقها، والقوى الفاعلة إيجابياً وسلبياً فى ذلك، والتعرف على المفاهيم المشاركة سواء مساعدة أو معاكسة للمفهوم موضع الدراسة، والتعرف على العلاقات بين المفاهيم، وهناك أيضاً تحليل حقول المرجعية التى يستند إليها فى تبرير فكر معين، وتحليل مسار البرهنة فى تقديم وجهة نظر ورأى معين( ).
ويستخلص مما سبق أن منهج تحليل الخطاب يمكن الباحث والقارئ من تفكيك النص وإعادة ترتيب عناصره للوصول إلى اكتشافات وجوانب لا تسمح بها القراءة الفورية وذلك بالوقوف على تفاصيل التصورات والمضامين وما وراءها من أيديولوجية ومرجعية فكرية محركة وما وراء هذه الأيديولوجية من سياقات مجتمعية أسهمت فى تكوينها وبنائها0
2-أسلوب التحليل الفلسفى Philosophical Analysis :
وهذا الأسلوب يقصد به فك وتفتيت الموضوع محل الدراسة إلى عناصره ووحداته الأولية سواء كان هذا الموضوع فكرة أو قضية من القضايا( ). وكذلك تحليل الكلمات والعبارات سعياً نحو التوضيح والتدقيق، حيث يهدف التحليل الفلسفى إلى الوقوف على معنى المصطلحات والمفاهيم وإدراك العلاقات فيما بينها، ويتم هذا فى ضوء السياقات المجتمعية المحيطة، والعمل على الربط المنطقى بين الأحداث وما وراءها من أسباب( ) لاستخراج واستخلاص الأفكار والرؤى والتصورات والوصول إلى نتائج محددة( ).
ومن ثم فإن التحليل الفلسفى هو تحليل نقدى للنص والقناعات والأفكار والتصورات والآراء بغرض التوضيح والترابط المنطقى، وتؤثر طبيعة المفهوم فى التحليل التفكيكى له، فقد تكون هناك مفاهيم مضللة أو نسبية ولها اعتبارات فنية معينة، فيسهم التحليل الفلسفى فى التوضيح المنطقى للخطاب التربوى وتحديد معالم المفاهيم لتقديم خطاب تربوى قوى ومحكم ومقبول منطقياً( ).
3-المنهج التاريخى : Historical method
من مجالات البحث التاريخى التربوى تناول أحد مفكرى التربية وتحليل ومناقشة فكره وجهوده( ).فى مثل هذا النوع من الدراسات يستخدم المنهج التاريخى بغرض الوقوف على القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى أثرت على آراء وتصورات وأفكار الشخصية موضع الدراسة( ).
حيث يستخدم المنهج التاريخى بطريقته العرضية والتى تعنى تقديم دراسة تفصيلية لحياة المفكرين وآرائهم فى ضوء الملامح الأساسية التى تميز مرحلتهم الزمنية( ). وهذا يعرف أيضاً بأسلوب دراسة الحالة، كطريقة من طرائق تنظيم البيانات والمعطيات الخاصة بالمجتمع وبالشخصية موضع الدراسة، فيستخدم لدراسة حالة المجتمع وكذلك التاريخ الشخصى للحياة (Life history)، وتتسع هذه الطريقة لتشمل تفسير الأحداث والخبرات والاهتمامات التى اكتسبتها الشخصية فى إطار سياقها التاريخى والاجتماعى( ).
حــــدود الدراســــة :
الحد الموضوعى :
وهو تحليل الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على من خلال الإبحار في كتاباته التربوية الكثيرة والمتنوعة بصفة عامة، وكتبه المقالية بصفة خاصة التى تحتوى على العديد من المقالات التى كتبت فى مواقف تتناول قضايا معينة.
الحد الزمنى :
فى مثل هذا النوع من الدراسات، تمتد الفترة من ميلاد ونشأة المفكر موضع الدراسة للتعرف على ظروف نشأته والسياقات المجتمعية التى شكلت فكره ومعتقداته وتوجهاته، وبذلك يمتد الحد الزمنى لهذه الدراسة من 1937 إلىوقت نهاية الدراسة0
الدراسات السابقة :
1-دراسة سلوى غريب جادو( ) :
هدفت الدراسة إلى التعرف على موقف الخطاب التربوى الرسمى وغير الرسمى فى مصر من ثلاث قضايا هى الاستقلال الوطنى والديمقراطية والهوية الثقافية فى الفترة من أوائل السبعينيات حتى أواخر التسعينيات، واستخدمت الدراسة أسلوب التحليل الكيفى للخطاب والذى يعتمد على القراءة الناقدة وتحليل حقول الدلالة الأيديولوجية فى الخطاب التربوى وقد تناولت الدراسة فى فصلها الخامس الحقل الأيديولوجي لخطاب الجماعة التربوية فى مصر، وفيه ذكرت بعض آراء الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على – كأحد خطابات التوجه المبكر فى اجتماع التربية والتوجه الإسلامى – حول الموقف من الخطاب الرسمى للتعليم، بخصوص السياسة التعليمية وأوراق تطوير التعليم، وكذلك الموقف من القضايا الثلاث محور الدراسة، وقد استفادت الدراسة الحالية من هذه الدارسة فى تحديد منهج الدراسة وكيفية التناول لما يطرح من أفكار بالخطابات التربوية، ومعرفة التوجهات الفكرية المختلفة للخطاب التربوى فى مصر فى هذه الفترة ومواقفه من بعض القضايا، فى حين تختلف الدراسة الحالية باقتصارها وتمحورها حول أحد هذه الخطابات الرائجة لتتناوله بشكل أكثر عمقاً وشمولاً وهو الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على0
2-دراسة سلامة مطر حسين المزاودة( ) :
هدفت الدراسة إلى إبراز الجهود التى بذلت فى خدمة التربية الإسلامية من خلال أحد علمائها وهو سعيد إسماعيل على والذى له العديد من المؤلفات فى التربية الإسلامية، وفى حدود الدراسة اقتصرت على هذه المؤلفات وعددها 13 كتاب، واستخدمت الدراسة المنهج الوصفى التحليلى، وتناول الفصل الثانى التعريف بهذا العالم من حيث المولد والنشأة والتعليم والحياة العملية، وتناول الفصل الثالث كيفية تأصيل كتاباته بالقرآن الكريم وفيه عرضت الدراسة لبعض آيات القرآن التى استشهد بها فى كتاباته وبعض التفاسير التى استند إليها، وتناول الفصل الرابع تأصيل كتاباته بالسنة النبوية حيث عرض بعض الأحاديث التى استشهد بها هذا العالم فى كتاباته، وكتب الأحاديث التى اعتمد عليها، وتناول الفصل الخامس تأصيل كتاباته بآراء الفقهاء فى التربية وذكر فيه الباحث بعض أسماء الفقهاء التى استند إلى أقوالهم هذا المفكر، وتناول الفصل السادس تأصيل كتاباته بالعقيدة مثل قضايا الإيمان والوحدانية والكون والإنسان والمعرفة بالخالق وحرية الإرادة، وختاماً أوصت بدراسة شاملة تتناول كل كتابات سعيد إسماعيل على فى التربية بشكل عام، وهذا ما هدفت إليه الدراسة الحالية، واستفادت الدراسة الحالية من هذه الدراسة فى الوقوف على أحد الجوانب المتعددة لكتابات سعيد إسماعيل على، ولكنها تختلف عنها فى المقصد وطريقة التناول والقضايا محور الدراسة0
3-دراسة عبد الرحمن عبد الرحمن النقيب ( ) :
وفيها تم الحديث عن سعيد إسماعيل على ممثلاً لاستخدام المنهجية الإسلامية فى مجال أصول التربية، وذلك لمساهمته الغنية فى حقل التربية الإسلامية، وتمحور الحديث حول كتابه "فقه التربية: مدخل إلى العلوم التربوية" للوقوف على مكونات المنهجية الإسلامية كما تظهر من خلال هذا الكتاب، وتطرق الحديث إلى جوانب هذه المنهجية مثل الرؤية الكلية والتعامل مع القرآن والسنة والتعامل مع التراث التربوى الإسلامى والتعامل مع الفكر التربوى الغربى والتعامل مع الواقع والتعامل مع المفاهيم والمصطلحات، ثم تطرق الحديث إلى كيفية اكتساب هذا المفكر تلك المنهجية الإسلامية، وهنا تم عرض بعض جوانب من السيرة الذاتية له، وقد استفادت الدراسة الحالية من هذه الدراسة فى التعرف على بعض ملامح منهجية الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على والوقوف على جوانب من تكوين شخصيته، وتختلف الدراسة الحالية باتساعها لتتناول الخطاب التربوى عامة عند هذا المفكر بشئ من الشمول والتحليل والتعمق والتطرق إلى العديد من قضايا هذا الخطاب0
4-دراسة صلاح الدين محمد توفيق ( ) :
تناولت الدراسة بعض الملامح العامة لخطاب سعيد إسماعيل على ، مثل المنهجية العلمية والرؤية الكلية والنظرة الشمولية وتأصيله للفكر التربوى الإسلامى والتأصيل للمفاهيم والمصطلحات، وبعض جوانب شخصية هذا المفكر مثل التكوين الفكرى ونشاطه الفكرى والثقافى من عضوية لبعض الجمعيات والهيئات وحضور بعض المؤتمرات داخلياً وخارجياً، وأشارت الدراسة إلى جانب هام فى كتابات هذا المفكر وهى الرؤية العقلانية النقدية، وكيف أن كتاباته التربوية المتنوعة لا يمكن أن يتجاهلها أو يتخطاها أى باحث جاد فى مجال الدراسات التربوية، فلا نقرأ كتاب فى التربية باللغة العربية فى السنوات الماضية إلا ويكون قد استند ورجع إلى بعض مؤلفات هذا المفكر العقلانى المستنير، واستفادت الدراسة الحالية من هذه الدراسة فى الوقوف على بعض الملامح العامة لخطاب هذا المفكر وبعضاً من جوانب شخصيته كمفكر وإنسان، ولكنها تختلف عنها فى شمولية تناول الخطاب وفى التطرق إلى القضايا الفرعية المتضمنة فى خطابه التربوى0
مصطلحات الدراسة :
الخطاب التربوى : Educational discourse
أ-المعنى اللغوى :
الخِطَابُ والمُخَاطَبةَ : مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطاباً، وهما يتخاطبان، خَطبتُ على المنبر خُطبة والتى مثل الرسالة لها أول وآخر( ).
ب-المعنى الاصطلاحى :
الخطاب عبارة عن نصوص وتركيبات ذات معنى من مفردات تؤدى أغراض من أجل التواصل والتعبير عن مجموعة من الأحداث والغايات والمصالح والقضايا فى ضوء السياقات الاجتماعية والثقافية والظروف المحيطة( ).
والخطاب كنص يركز الانتباه على المعنى ووصف الكلمات المستخدمة فيه، والخطاب كممارسة يعنى التركيز على كيفية انتشاره ووصوله إلى الفئات المستهدفة والاستفادة منه، والخطاب كممارسة اجتماعية يعنى التركيز على كيف أن النص جزء من البناء المجتمعى العام والوقوف على العلاقة بين النص والواقع والوقوف على المقاصد والأغراض من ورائه وما هى المنفعة والاستفادة التى تتحقق من الأخذ بما يطرحه من رؤى وتصورات( ).
وعليه يمكن تعريف الخطاب التربوى على أنه مجموعة من الأفكار والمفاهيم والمعتقدات والقيم المتسقة التى تكون فيما بينها بنية نظرية لفكر تربوى يعبر عن – لغة ومضمون وجوهر – التوجهات الأيديولوجية لفرد أو جماعة أو نظام أو مجتمع تجاه القضايا والأوضاع التربوية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية القائمة وكذلك يتسخدم كنموذج لتوجيه الممارسات التربوية فى ضوء هذه الأيديولوجية( ).
مخطط الدراسة :
لتحقيق أهداف الدراسة فقد سارت وفق الإطار الفكرى التالى :
الفصل الأول : الإطار المحدد للدراسة0
الفصل الثانى : السياقات المجتمعية التى شكلت الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على0
الفصل الثالث : النمو الفكرى والاجتماعى عند سعيد إسماعيل على0
الفصل الرابع : الأسس والمنطلقات الفكرية للخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على0
الفصل الخامس : فلسفة الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على في بناء الإنسان المعاصر.
الفصل السادس : أهم قضايا الخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على0
الفصل السابع : رؤية تقييمية للخطاب التربوى عند سعيد إسماعيل على0
|