تعد قضية الاحتياطيات الدولية أحد أهم القضايا في الدول النامية عموماً وفي حالة مصر خصوصاً سواء فيما يتعلق الأمر بتحديد العوامل المحددة للمستوى الآمن والمعقول لهذه الاحتياطيات أو بالتوليفة المثلى التي تتكون منها أو بطريقة إدارتها برشادة، وخاصة أن موضوع الاحتياطي الأجنبي يطرح نفسه بقوة في الآونة الأخيرة نظراً لوجود علاقة وثيقة بين أزمة المديونية الخارجية والاحتياطيات الدولية فضلاً عن ما تعرضت له مصر من تداعيات الأزمة الآسيوية والأزمة المالية العالمية 2008، وتداعيات ثورة 25 يناير 2011.
وتحتفظ الدول باحتياطيات نقدية سائلة أو شبه سائلة بهدف استخدامها في علاج العجز المزمن أو الطارئ في ميزان المدفوعات وللحفاظ على سعر صرف العملة المحلية من التدهور والانهيار أمام العملات الأجنبية الأخرى، وهو ما يستدعي البحث عن حجم أمثل لهذه الاحتياطيات تحقيقاً للأهداف الاقتصادية والنقدية المرجوة خاصة وأن زيادة هذه الاحتياطيات عن الحجم الأمثل لها ينطوي على تكاليف وإهدار للمنافع التي يمكن الحصول عليها جراء استثمار هذه الاحتياطيات في الإنتاج والاستثمار في الأوراق المالية الدولية، وناهيك عن أن انخفاض هذه الاحتياطيات عن الحجم الأمثل ينطوي على العديد من المخاطر والأزمات.
ولذلك فإن الاقتصاديات المتمتعة بمستوى آمن ومناسب من الاحتياطيات الدولية يمكنها مواجهة مصاعب خدمة ديونها الخارجية دونما ضغوط خارجية بشكل أفضل من الاقتصاديات التي لا تملك هذا المستوى، وهذا فضلاً عن الاقتصاديات التي تملك هذه الاحتياطيات المناسبة تتمتع بقدرة واضحة في التعامل مع أسواق النقد الدولية نظراً لأنها من العوامل المحددة لثقة الدائنين في اقتصاد الدولة، وكانت قضية الاحتياطيات محل تجاهل في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وحتى اندلاع أزمة المديونية عام 1982 تأسيساً على أن إمكانيات الدول النامية للوصول إلى أسواق النقد الدولية والحصول على السيولة الدولية كانت إمكانات مرتفعة لأنها كانت تنظر للسيولة المقترضة بديل عن السيولة المملوكة، وكانت قدرة الدول النامية على الاقتراض الخارجي قصير الأجل إبان تخمة السيولة الدولية التي سادت إبان الفترة 1972-1982 أحد الأسباب المحورية الدافعة للبنوك المركزية بالدول النامية لعدم الاهتمام بتكوين المستويات الآمنة والملائمة من الاحتياطيات، وذلك لاستعداد أسواق النقد الدولية (البنوك التجارية دولية النشاط والمؤسسات الائتمانية التي تمنح تسهيلات الموردين) لتلبية طلب الدول من القروض وتوفير السيولة لمواجهة أزماتها الطارئة.
ولكن منذ إندلاع أزمة المديونية عام 1982 عندما توقفت المكسيك والأرجنتين وشيلي فجأة عن دفع أعباء ديونها الخارجية وما أحدثه ذلك من ذعر مالي كبير لدى الدائنين الرئيسيين لهم، ومنذ ذلك الحين بدأت كافة مؤسسات الإقراض الدولية تغل يدها عن منح القروض للدول النامية خاصة تلك الدول التي تعاني من مديونيات ثقيلة، وإزاء ذلك هبط معدل نمو السيولة الدولية وهو ما أضحى بصعوبة إقراض الدول الديون قصيرة الأجل أمراً صعب المنال، وجاء ذلك في ظل ظهور الآثار السلبية لسياسات الاقتراض الخارجي غير الرشيد للدول النامية حيث تفاقمت أعباء خدمة الديون (الأقساط والفوائد) وزيادة أسعار الواردات وبالتالي زيادة عجز موازين مدفوعاتها مما كان يستدعي مزيداً من الاقتراض الخارجي لتتمكن من الموائمة بين دفع أعباء ديونها وتأمين الواردات الأساسية، وهو ما شكل ضغطاً شديداً على مستويات الاستهلاك المحلي والإنتاج الجاري وزيادة معدلات التضخم وتوقف عملية التنمية، وقد تستخدم احتياطياتها الدولية المملوكة (في ظل ندرة مصادر الاقتراض الخارجي) في رفع أعباء ديونها وتمويل وارداتها الضرورية مما عرض هذه الاحتياطيات للاستنزاف والتدهور الشديد فضلاً عن تدهور أسعار صرف عملاتها الوطنية مما اضطرها للذهاب إلى نادي باريس ونادي لندن لطلب إعادة جدولة ديونها ولاتفاق على مواعيد جديدة للسداد والإذعان لتطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي بشقيها برنامج التثبيت والتكيف الهيكلي مع صندوق النقد والبنك الدوليين.
ولم تكن مصر بعيدة عن تأثير وتداعيات هذه الأزمات وما تلاها من أزمات مالية خاصة تلك التي شهدتها العديد من الدول الصاعدة والنامية خاصة الأزمة الآسيوية 1997-1998 حيث إن دول شرق آسيا قد أحدثت نمواً هائلاً في حيازة الاحتياطي الأجنبي كما أن العقد الأول من الألفية الثالثة قد شهد ارتفاعاً في الحجم العالمي من الاحتياطي الأجنبي بنحو 65% عن مستواه في فترة ما قبل النصف الأول من التسعينات من القرن العشرين، وذلك للتحوط ضد الأزمات، ففي الفترة من 2000-2006 قامت كل من اليابان والصين كوريا الجنوبية وماليزيا وتايوان بتكوين احتياطيات أجنبية بنسبة 133% ، 262%، 107%، 124%، 126% على التوالي، وهو ما جعل منهجية تراكم الاحتياطيات تتبع حتى من الدول الأقل انفتاحاً على الأسواق الدولية.
ويقدر الحجم العالمي للاحتياطيات الدولية بنحو 11.7 تريليون دولار خلال الربع الأول من 2013، ويكفل هذا الحجم الكبير منافع عديدة تتمثل في حماية ووقاية الاقتصادات القومية من صدمات النقص أو التوقف المفاجئ للتدفقات النقدية من العملات الأجنبية إلى داخل الدول باعتبار هذا الحجم مخزون وقائي لدرء مخاطر الصدمات الخارجية على الاقتصاد، وتوجد أعلى 10 دول تمتلك الاحتياطي الأجنبي تشكل 2/3 إجمالي الاحتياطي العالمي من العملات الأجنبية فتأتي الصين بملكية 3.3 تريليون دولار في نهاية 2012 والتي لم تكن تمتلك قبل عشرين عاماً سوى 18 مليار دولار فقط، وتأتي اليابان ثانياً بملكية 1.3 تريليون دولار في 1/12/2012، وجاءت السعودية رابعاً بعد الصين واليابان ومنطقة اليورو، وجاءت روسيا خامساً باحتياطي 538.6 مليار دولار ثم سويسرا فالبرازيل وكوريا الجنوبية ثم تايوان وهونج كونج والهند.
وإزاء هذا الحجم المتعاظم والفائض في الرصيد من الاحتياطي الأجنبي لدى الدول قد وجه الانتباه إلى الاستخدام البديل ونفقات الفرص البديلة له مقارنة بمنافعه، وهو ما بات ضرورياً البحث عن الحجم الأمثل من الاحتياطي الأجنبي الذي يجب على الدول حيازته لأن المبالغة في تركيمه ينطوي على تكاليف اجتماعية ومالية ككل من منافع حيازته ويخل بالتوازن الداخلي والخارجي للدولة، وفي المقابل فإن انخفاض حجم الاحتياطي يؤدي للتضحية بمنافعه المتمثلة في حماية الاقتصاد من مخاطر الصدمات الخارجية والأزمات المالية والمصرفية والاقتصادية، في ظل العلاقات التشابكية الاقتصادية الدولية وعولمة الأسواق وانفتاحها وانتشار عدوى الأزمات دولياً، ومن ثم يلزم حيازة احتياطي ليس بالضرورة ضخماً ولكنه يمكن الدولة من توقي المخاطر المحتملة للصدمات الخارجية بأقل تكاليف، وعليه فإن مسألة الحجم الأمثل للاحتياطي الأجنبي تعد أحد مهام وأهداف السلطات النقدية بغض النظر عن نظام سعر الصرف المطبق بالدولة.
وفي النظرية الاقتصادية فإن نظام سعر الصرف المطبق يحدد المستوى الأمثل للاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي ففي ظل نظام سعر الصرف المرن فإن الطلب على الاحتياطي الأجنبي ينخفض حيث يتم تصحيح اختلالات المدفوعات الخارجية عن طريق تعديل سعر الصرف، ولكن في ظل تعويم سعر الصرف فذلك يدفع البنوك المركزية لاستخدام الاحتياطي الأجنبي لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف بدافع التحوط مما يدفع البنوك المركزية لتراكم احتياطيات أجنبية لديها لتلافي إرتفاع قيمة العملة المحلية للحفاظ على القدرات التنافسية للصادرات، ولقد انتهجت كل من اليابان ودول شرق آسيا (النمور الآسيوية) هذه الاستراتيجية.
وإزاء أهمية وخطورة حجم الاحتياطي الأجنبي فإن الأدب الاقتصادي والدراسات الاقتصادية التطبيقية عكفت على بناء نماذج لتقدير الحجم الأمثل للاحتياطي الأجنبي الضامن للتحوط ضد مخاطر الانخفاض المفاجئ لتدفقات النقد الأجنبي، وما ينتج عنها حدوث صدمات نقدية وحقيقية على الاقتصاد القومي داخلياً وخارجياً خاصة في ظل العولمة المالية وتحرير الأسواق المالية والنقدية وتزايد احتمالية تعرض الدول للأزمات وتداعياتها كما حدث في الأزمة المالية العالمية 2008، وتزايد تعرض القطاع المصرفي للمخاطر وتداعيات أزمة المديونية، وزيادة التكاليف الاجتماعية والمالية المرتبطة بتلك الصدمات والأزمات.
وتعتبر مصر إحدى الدول التي تشهد أزمة اقتصادية إنعكاساً لعدم الاستقرار السياسي والأمني منذ أحداث ثورة 25 يناير 2011، وهو ما انعكس سلبياً على ميزان المدفوعات وتعرض الميزان الجاري والرأسمالي للصدمات المتتالية، وتزايد الضغوط على رصيد الاحتياطي الأجنبي لمواجهة الاحتياجات التمويلية والحفاظ على قيمة الجنيه من التدهور والانهيار، حيث تراجع رصيد مصر من الاحتياطي الأجنبي بنحو 50% من قيمته قبل عام 2011 حيث انخفض من 3562 مليار دولار في نهاية 2010 إلى نحو 17.8 مليار دولار في نهاية ديسمبر 2013، ومع استمرار الضغوط الاقتصادية في ظل الاضطرابات السياسية والأمنية أصبح رصيد الاحتياطي الأجنبي لمصر تابعاً ومسبباً لمعظم الصدمات الداخلية والخارجية التي يواجهها الاقتصاد المصري منذ عام 2011، وهو الأمر الذي جعل العديد من مؤسسات التصنيف الائتماني الدولي يخفض درجة تصنيف مصر الائتماني عدة مرات منذ 2011 حتى أواخر 2013 مما تسبب في إضعاف ثقة المستثمرين في الاقتصاد المصري ومزيداً من التراجع في تدفقات موارد النقد الأجنبي ولرصيد مصر من الاحتياطي الأجنبي بالتبعية.
ولذلك بات ضرورياً على مصر الاحتفاظ بحجم احتياطي أمثل يعظم قدراتها على استيعاب الآثار السلبية للصدمات والإقلال من احتمالية حدوثها مستقبلاً، ولكن مع تفاقم الاختلالات المالية والنقدية والاقتصادية منذ 2011 فإن مسألة تكوين رصيد إضافي للاحتياطي الأجنبي أضحى عسيراً لأنه ينطوي على تكاليف مالية أو شبه مالية في ظل ما يعانيه الاقتصاد المصري من اختلالات اقتصادية داخلية فضلاً عن أن تكوين ذلك الرصيد يحتاج لإصلاحات شاملة لضمان استمرار واستدامة الزيادة في الرصيد بما يمكن مصر من التحوط من الأزمات الخارجية والتخفيف من آثارها.
|