تعد هذه الدراسة التي بين أيدينا محاولة للكشف عن رؤي و أفكار" ألفرد آير"، وتوضيح العديد من المفاهيم والأفكار التي يتم طرحها في علم المنطق و علم المعني من خلال تصور "آير" لهذا المفاهيم و الأفكار، ويطرح وجهه نظره من خلال نقده الآراء السابقة. تعتبر الفلسفة التجريبية من أهم الفلسفات التي آمنت بأن مصدر المعرفة هو الخبرة الحسية رافضة بذلك كل النتائج التي تعتمد على التفسير المجرد و المعايير الدينية و السلطة السياسية، وبذلك نجدها كرد فعل على العقلانية التي تعد بمثابة نظرية يؤكد ممثلوها أن كل الصعوبات التي تواجه الإنسان إنما تدرك بواسطة العقل، ومن هنا جاء ما أطلق عليه في القرن العشرين اسم " الوضعية المنطقية" التي تعد واحدة من أعظم الاتجاهات الفلسفية المعاصرة، إذ تعتبر امتداد للوضعية الكلاسيكية وتكملة للتجريبية الانجليزية التي عرفها الفكر الفلسفي في القرن الثامن عشر، حيث تسعي إلي تحقيق منهج علمي من خلال استنادها على مجموعة من المنطلقات الأساسية مثل التحليل المنطقي واللغوي، ومبدأ وحدة العلم، ورفض الميتافيزيقيا ، ونظرية مبدأ التحقق. في ظل الوضعية المنطقية، تغيرت وجهة نظر الفلسفة ولا تقتصر على أطروحات ومنظومات متكاملة، بل أصبحت تناول المشكلات والمواضيع بأسلوب تحليلي وتوضيحي، مما يمنحها طابعًا نشطًا وفاعلًا بدلاً من كونها مجرد مجموعة من المعتقدات والأنساق والنظم المتكاملة. وضع الأساس التجريبي لموقف "آير" في المعنى أولًا في قراءته لـ"هيوم"، والاعتقاد أنه ما من فكرة لها أي دلالة تجريبية ما لم تكن مرتبطة بشكل مناسب بانطباع ثابت معها تعزز من خلال قراءته لكتاب الرسالة لـ " فتجنشتين " ومن خلال الوقت الذي أمضاه في فيينا مع الوضعية المنطقية. وكانت أول صياغة المعيار المعنى، مبدأ التحقق، في الطبعة الأولى من كتاب " اللغة و الحقيقة والمنطق " عام 1936، حيث ادعى أن جميع القضايا كانت تحليلية (صادقة بفضل معناها أو غير ذلك إما يمكن التحقق منها بقوة أو يمكن التحقق منها بشكل ضعيف)، ويتطلب التحقق القوي أن يكون صدق القضية مؤكدًا بشكل قاطع ويتطلب التحقق الضعيف فقط أن تكون عبارة الملاحظة قابلة للاستنتاج من القضية إلى جانب القضايا الأخرى المساعدة، بشرط ألا تكون العبارة الملاحظة قابلة للاستنتاج. من وجهة نظر " آير" للمعنى، يمكن استنتاج أن المعاني اللغوية للكلمات والعبارات تعتمد على السياق والاستخدام. على الرغم من أن الكلمات قد تحمل معاني قواميسية محددة، إلا أن فهم المعنى الحقيقي يتطلب النظر إلى السياق الذي تم استخدامه فيه والمعلومات الخلفية المتاحة. بمعنى آخر، المعنى ليس مجرد تركيبة من الكلمات بل يعتمد أيضًا على الظروف والخلفية الثقافية للشخص الذي يتلقى الرسالة. إن "آير" يبحث عن حل وسطا للصراع بين النظرة العلمية ونظرة الحس المشترك تجاه طبيعة الأشياء الماديـة، حيث يرى أن إدراك الأشياء المادية لا يتم اعتمادا على الانتقال المنطقي، وإنما يستند إلى افتراض الأشياء الماديـة مع تضمينها نوعا من التخيل، والحقائق الواقعية(المادية ) لا يمكن التحقق من صحتها باعتماد البرهنة العقليـة لأنهـا تستند على التجربة، كما يجب استبعاد الخطابة التي تعتمد الأساليب البلاغية و تنطلق من الحس العام (المشـهور لـدى الجمهور) باعتماد الحجج، فالحقائق العقلية وحدها قابلة للبرهنة، والفلسفة المادية. |