حاول هذا البحث أن يكشف النقاب عن واحدة من أبرز المسائل المتعلقة بعلم النحو ، وهي مسألة الإعراب ،حتى إنه لتكاد تكون كلمة أو مصطلح الإعراب بديلاً من كلمة أو مصطلح النحو فى الدلالة على هذا العلم .
وفى رأيى أن العلماء والباحثين لم يختلفوا فى مسألة نحوية قدر اختلافهم فى مسألة الإعراب ، فقد تباينت آراؤهم فى هذه المسألة تَبَايُنَاً وصل إلى حد التناقض ؛ ففريق يُعْظِمُ من شأن النحو والإعراب ، ويرى (( من العلوم الجليلة التى خصت بها العرب الإعرابَ)) ، ويرى أن : (( النحو نِصَابُ العلم ونظامه ، وعموده وقِوَامُه ، ووَشْىُ الكلام وحُلَّتُه ، وجماله وزينته )) ، وأنه (( من أسمى العلوم قدراً ، وأنفعها أثراً ، به يتثقف أَوَدُ اللسان ، ويَسْلُسُ عنان البيان(9) )) ؛وفريق يُقَلِّل من شأن النحو والإعراب ، ويحقِّر من شأن النحاة ، ويرى أن : (( المكثر من النحو كالمكثر من غرس شجر لا يثمر )) ، وأن النحاة (( أغزهم علماً أنزرهم فهماً )) .
وقد رأيت أن أعالج هذه القضية في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة بدءا من روايات نشأة النحو العربى ، ومرورا بعلاقة الإعراب بالدلالة اللغوية، وانتهاء بكيفية دخول الإعراب الكلام وأسبابه . وقد وقعت هذه الدراسة فى مبحثين ، أحدهما :الإعراب وروايات نشأة النحو العربى، والثاني: الإعراب والدلالة .
وبعد معالجة روايات نشأة النحو العربى، والإعراب وصلته بالدلالة، يمكن أن نقف على ما يأتي:
1-أن ما تثبته بعض الروايات من أنَّ سوء فهم السامع لمراد المتكلم بسبب خطأ المتكلم فى الإعراب، هو سبب قيام أبى الأسود الدؤلي بوضع ما وضع من علم النحو –تنفيه روايات أخرى ،مثل: مات أبانا وترك بنوه ؛ لأنه لا يمكن أن يكون السامع – برغم خطأ المتكلم فى الإعراب – قد فهم شيئاً غير أن هناك رجلاً توفى وترك خلفه أبناء ، سواء وردت هذه العبارة على الشكل الصحيح نحواً وهو : مات أبونا وترك بَنِينَ ، أو وردت على أى شكل آخر : توفى أبانا أو أبونا أو أبينا وترك بنوناً أو بنيناً ، ومات أبانا أو أبونا أو أبينا وترك بنوه أو بنيه، وهذا يعنى أن الدعوة إلى وضع النحو ليست مرتبطة بسوء الفهم الناجم عن الخطأ فى الإعراب ، وإنما هى مرتبطة بمجرد الخطأ ، وخروج المتكلم على قواعد النحو التى تعارف عليها أبناء اللغة. وهذا يعنى أن مجرد الخروج على النظام اللغوي هو الداعى إلى نشأة النحو .
2-أن هناك ثلاثة اتجاهات فى علاقة الإعراب بالدلالة ، هى: الأول : اتجاه يرى أصحابه أن للإعراب دوراً فى الوقوف على الدلالة ، وأنه لولا الحركات الإعرابية ما أمكن التمييز بين المعانى ، كالفاعلية والمفعولية وغيرهما، ويأتى على رأس هذا الفريق الزجاجى (ت 237 هـ)، والثاني: اتجاه يرى أصحابه أن الحركات الإعرابية لا تُبِينُ عن المعانى ، ولا صلة لها بها ،وأنها وجدت في الكلام لوصل الكلمات بعضها ببعض فى الكلام ؛ لأن الوقوف على كل كلمة بالتسكين يؤدى إلى البطء فى الكلام،ويمثل هذا الاتجاه من القدماء وينفرد به قطرب ( محمد بن المستنير ت 206 هـ )؛ والثالث : اتجاه يجمع بين رَأْيَىْ الفريقين السابقين ، ويذهب إلى أن الإعراب دخل الكلام فى أول الأمر لغرض لفظى ، يتمثل فى وصل الكلمات بعضها ببعض ، ثم اسْتُغِلَّتِ الحركات الإعرابية بعد ذلك لأغراض معنوية، وهذا الرأي هو الراجح عندي.
3-أن دخول الإعراب الكلام مرَّ-عندي- بثلاثة أطوار:طور عشوائية الحركات، وهو الطور الذى استخدمت فيه الحركات لمجرد وصل الكلام بعضه ببعض فى النطق . والدليل على وجود هذا الطور- في رأيى – ما يعرف بوجوه الإعراب فى النحو ، وتعدد القراءات القرآنية،وطور نظامية الحركات أو تنظيمها ، وهو الطور الذى استخدمت فيه الحركات الإعرابية استخداماً منتظماً أو مُنَظَّمَاً ، فانتظم مجىء الأسماء الواقعة فاعلة – وهى مفردة – بالضمة ، أو ما ينوب عنها من الحروف ، وانتظم مجىء الأسماء الواقعة مفعولة – وهى مفردة – بالفتحة ، أو ما ينوب عنها إن كانت غير مفردة … إلخ ) . ولكن مع هذا التنظيم والتنسيق للحركات الإعرابية بقيت شواهد على عشوائية الحركات ، تتمثل فى وصل الكلمات بما بعدها بضمها أحياناً ، وفتحها أحياناً ، وكسرها أحياناً ،وطور توظيف الحركات ، وهو الطور الذى اُسْتُغِلَّت فيه الحركات الإعرابية وما ينوب عنها لأداء وظيفة فى الكلام ، إذ أمكن تقديم المفعول على الفاعل مع بقاء دلالة الفاعل على الفاعلية ، والمفعول على المفعولية من خلال الحركات ( الضمة والفتحة ) ، وغير ذلك من أشكال التقديم .
|