مقدمة
تعد ظاهرة المحظور اللغوى ، أو المحظور استعماله من الألفاظ والعبارات فى اللغة – واحدةً من الظواهر اللغوية التى لا تكاد تخلو منها لغةٌ من اللغات الإنسانية ؛ لأنها ظاهرة تتعلق بما تنفر منه النفس البشرية نفورَ اشمئزازٍ وتَقَزُّز ، أو نفورَ حياءٍ وخجل ؛ وتتعلق كذلك بما تخشاه النفس خشيةَ تقديسٍ وتبجيل ، أو خشيةَ خوفٍ ورهبة. وتلك الأحوال (النفور والخشية وغيرها) التى تكتنف النفس البشرية يشترك فيها الناس جميعاً ، على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ؛ لأنها تمثل جزءاً من البنية النفسية لكل إنسان ، إلا من اختلَّت نفسه، واضطرب وجدانه من البشر.
ومن الحقائق النفسية المُسَلَّمة أن النفس البشرية إذا أحبَّت شيئاً أحبت ما يتعلق به وبخاصة اسمه ؛ لأنه (الاسم) علامة على هذا الشىء ، به يعرف ويمتاز عن غيره من الأشياء . وقد كان شعراؤنا العُشَّاق – مثلاً– يحبون أسماء محبوباتهم ، بل يحبون ما وافق أسماء محبوباتهم ، أو ما أشبهها ، يقول جميل بُثَيْنَة :
أُحِبُّ مِنَ الأسماءِ مَا وَافَقَ اسْمَهَا وَأَشْبَهَهُ أَوْ كَانَ مِنْهُ مُدَانِيَا (1) .
وإذا كرهت النفس شيئاً كرهت اسمه كذلك ، ويترتب على ذلك كراهية النطق به (الاسم) ؛ لأنه يؤذى أذن السامع . ومن هنا تكون الألفاظ الدالة أو الواقعة على المكروه من الأشياء ألفاظاً محظورة ، كالألفاظ الدالة على قضاء الحاجة ، والحدث ، وغيرها ، وتدخل فى إطار ما يطلقون عليه فى اللغات الأجنبية مصطلحTaboo ، ويضطر أبناء اللغة إلى أن يستبدلوا بهذه الألفاظ المحظورة ألفاظاً أخرى أَخَفَّ وطأة على النفس ، يطلقون عليها فى اللغات الأجنبية مصطلح Euphemism .
وإذاً فظاهرة المحظور عملة ذات وجهين : وجه يمثل الألفاظ المحظور استعمالها ، ووجه يمثل الألفاظ المستحب أو المستحسن استعمالها وهى الألفاظ البديلة للألفاظ المحظورة .
وتسمية الظاهرة بأحد وجهيها (وهو المحظور ) يعد – عندى - من باب تسمية الكل باسم بعض أجزائه ، كإطلاق العين وإرادة الإنسان فى الحديث الشريف : عينان لا تمسهما النار. أما اختيار الوجه الأول ( المحظور ) دون الوجه الثانى ليكون عنواناً للظاهرة بوجهيها، فذلك راجع عندى إلى أن وجود الكلمة المحظورة – فى دلالتها على الشىء المحظور القبيح – سابق لوجود الكلمة المستحسن استعمالها بديلاً للمحظورة سبق الحائط للسقف ، فإذا كان السقف لا يقوم إلا على حائط فى البناء ، فإن الكلمة البديلة لا تقوم إلا على استبعاد الكلمة المحظورة فى الاستعمال بين أبناء المجتمع اللغوى .
هذا ، وقد قام الدكتور كريم حسام الدين بدراسة هذه الظاهرة فى كتابه :"المحظورات اللغوية : دراسة دلالية للمُسْتَهْجَن والمحسَّن من الألفاظ" ، وقد درسها فى كتابين من كتب التراث العربى ، هما : الكناية والتعريض ،لأبى منصور الثعالبى (ت430هـ) ، والمنتخب من كنايات الأدباء وإشارات البلغاء ، لأبى العباس الجرجانى (ت482هـ) ، والكنايات والتعاريض المشتمل عليها هذان الكتابان – كما يتضح من عنوان كل منهما – تمثل مادة ثرية لبحث الظاهرة ؛ لأن كثيراً من الكنايات تدور فى فلك المحظورات اللغوية .
وقد لفت نظرى فى أثناء قراءتى فى صحيح البخارى – وهو أصح كتب الحديث عند العلماء – ورود حديث شريف ، استخدم فيه النبى ( صلى الله عليه وسلم ) - وهو مَنْ هو فى الحياء وحُسْنِ الخلق – الفعل الدال على العلاقة الجنسية المشتق من مادة النون والياء والكاف استخداماً صريحاً، وكذلك استخدم - صلى الله عليه وسلم – اللفظ الصريح الدال على الْحَدَث ، المشتق من مادة الضاد والراء والطاء . وقد ثار فى نفسى عدد من الأسئلة : ما هى المعايير التى يعد اللفظ – على أساسها – محظوراً
|