يوضح هذا البحث كيف خضعت العلاقات التجارية بين مصر وبريطانيا خلال عُقد ونيْف من الزمن لسلسلة متصلة من تداعيات الحروب المتتالية وآفاق التمصير المتلاحقة، فخلال الحرب العالمية الثانية تحولت مصر بكل مواردها الاقتصادية إلى قاعدة عسكرية لبريطانيا وحلفائها فى الشرق الأوسط، وأصيبت تجارتها بشلل تام نتيجة توقف المواصلات الدولية، وفرضت القوات البريطانية سيطرتها على قطاعات الاقتصاد المصرى بهدف توفير المؤن والسلع الضرورية اللازمة لجيوش الحلفاء، ولذلك تأثرت كافة قطاعات الاقتصاد بالحرب وأكتوى الشعب بويلاتها، ووقع جزء كبير من تمويلها على عاتق الخزانة والسوق المصرية؛ سواء فى صورة تسهيلات تموينية، أو إعفاءات جمركية، أو واردات بريطانية أو غيرها، وهو ما أدى حدوث تحولات جوهرية فى سلة التجارة الخارجية سواء من ناحية الصادارات أو الواردات، فتوقف تصدير القطن، وزادت الصادرات الاستهلاكية، وأذدهرت الصناعة، وإنتعشت الرأسمالية، وعلى الجانب الآخر، غدت مصر لا تفى باحتياجاتها نظرًا لشدة الطلب على المنتجات، وانعكس ذلك فى صورة أزمة تموينية حادة كادت تصل إلى حد المجاعة، فضلاً عن حالة التضخم، والأرتفاع الفاحش فى الأسعار، وزيادة المتداول من البنكنوت، وهو ما تعكسه بوضوح مشكلة الأرصدة الإسترلينية، التى نشأت خلال الحرب، وألقت ظلالها على العلاقات التجارية بين البلدين فيما بعدها.
فشهد التبادل التجارى بين البلدين عجزًا ملحوظًا فى تمويله من العملات الأجنبية، نظرًا لخروج مصر من منطقة الإسترلينى وتجميد الأرصدتها عام 1947، وعدم قدرة بريطانيا على تمويل تجارتها الخارجية إبان حرب فلسطين 1948، كما كان يحدث سابقًا، ولذلك سعت مصر لتحقيق الاستقلال المالى وتأكيد هُوية الدولة اقتصاديًا عن طريق التمصير، وتمكنت من ذلك عبر مجموعة من الخطوط المتتالية: كان أولها؛ الانضمام إلى صندوق النقد الدولى، ثم الخروج من منطقة الاسترلينى، وقد ترتب على ذلك انفصام العلاقة بين الجنية اللإسترلينى ونظيره المصرى، وتحقيق الاستقلال المالى للأخير . وكانت أبرز آثار الحرب تتمثل فى: تراجع بريطانيا من قمة الصدارة فى معاملات مصر الخارجية منذ حرب فلسطين فصاعدًا، ودخول دولاً جديدة بدلاً منها كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوﭬيتى، ورغم أن مصر باعت جزءًا من القطن لتمويل الحرب، بيد الكميات الكبيرة من القطن المخزون، والارتفاع الكبير فى الأسعار العالمية جعل أثر ذلك غير ملحوظ، ومن النتائج المهمة التى ترتبت على الحرب أيضًا أن زادت مصروفات الجيش البريطانى فى مصر زيادة كبيرة، نتيجة ترحيل معدات الجيش البريطانى فى فلسطين إلى قاعدة قناة السويس، وأخيرًا ارتفعت فوائد القروض فى ميزان المدفوعات نتيجة للضغوط التى فرضتها قروض تمويل حرب فلسطين إلى قروض الدين العام.
أما حرب السويس فقد تركت العديد من الآثار المهمة على تجارة مصر الخارجية، حيث أسفر الحصار الاقتصادى وتداعيات العدوان العسكرى عن حدوث أزمة حادة وسريعة الزوال فى العملات الأجنبية اللازمة لتمويل التجارة الخارجية، صاحبها توقف العديد من السلع الغذئية والاستهلاكية، وارتفاع الأسعار، ولكن الحكومة تمكنت من السيطرة عليها بعدة وسائل منها تشجيع الصادرات، والمساعدات التى قدمتها الدول والشعوب الصديقة، كما أسفرت الحرب عن تمصير المصالح والشركات البريطانية العاملة فى مصر، وبالتالى أنهت السيطرة الأجنبية على قطاعات مهمة من الاقتصاد الوطنى، وأدت إلى توسع قطاع الأعمال المملوك للدولة، وأحداثت تحول واضح فى اتجاه تجارة مصر الخارجية من الغرب إلى الشرق، وإلى الاتحاد السوﭬيتى بالتحديد، فى حين انحصرت وانقطعت العلاقات التجارية بين مصر وبريطانيا، ونجحت المحاولات المصرية المتلاحقة فى تمصير التجارة الخارجية والتخلص من سيطرة الأجانب عليها، وذلك بإصدار القانون رقم 24 لسنة 1957 الذى حظر مزاولة الأعمال التجارية على غير المصريين.
|